مواضيع مماثلة
بحـث
المواضيع الأخيرة
هام جدا .. أرجو التثبيت :: صبري الصبري
الخميس ديسمبر 30, 2010 4:57 pm من طرف صبري الصبري
يُـجـري الآن تصويت في ألمانيا من أجل الاعتراف بالدين الإسلامي كدين أساسي كـ اليهودية والنصرانية، هذا …
[ قراءة كاملة ]
تعاليق: 2
الحداثة الصحيحة [خواطر للتأمل (2)] بقلم سعيد سليمان:
الإثنين يوليو 26, 2010 5:18 pm من طرف سعيد سليمان
الحداثة الصحيحة [خواطر للتأمل (2)] بقلم سعيد سليمان:
مما لاشك فيه أن دور الأديب في المجتمع هو أخطر الأدوار
جميعا؛ فهو …
[ قراءة كاملة ]
تعاليق: 6
رسالتي لبعض الحداثيين/وليد صابر شرشير
الثلاثاء يناير 13, 2009 4:49 am من طرف Admin
بسم الله الرحمن الرحيم
[ قراءة كاملة ]
ثم إنا قد نعلو أشواطاً في مديد القول وغلوّ الإبداع..ونكسب ود النخبة المتبوءة الساحة …
[ قراءة كاملة ]
تعاليق: 4
الحداثة الصحيحة (خواطر للتأمل) بقلم سعيد سليمان:
الخميس يوليو 01, 2010 3:33 pm من طرف سعيد سليمان
الحداثة الصحيحة (خواطر للتأمل) بقلم سعيد سليمان:
إن العقل الواعي لا يرفض الحداثة كونها اصطلاحا فنيا. …
إن العقل الواعي لا يرفض الحداثة كونها اصطلاحا فنيا. …
[ قراءة كاملة ]
تعاليق: 27
ما بين الشعر والنظم،وما بين النظم وما إليه
الأربعاء يناير 20, 2010 10:08 am من طرف Admin
ما بين الشعر والنظم،وما بين النظم وما إليه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أولاً وقبل أن أخوض في ردي على …
[ قراءة كاملة ]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أولاً وقبل أن أخوض في ردي على …
[ قراءة كاملة ]
تعاليق: 1
هلموا فاق المجمع وهب الطير من الوكن
الخميس يناير 22, 2009 7:37 am من طرف Admin
بسم الله الرحمن الرحيم
لمّا أقمنا مجمعنا وحققنا نتائج طيبة من حيث الشعور الغامر للأصاليين الأفذاذ …
[ قراءة كاملة ]
لمّا أقمنا مجمعنا وحققنا نتائج طيبة من حيث الشعور الغامر للأصاليين الأفذاذ …
[ قراءة كاملة ]
تعاليق: 1
إدارة المجمع
نظرة جديدة إلى التراث الأدبي العربي 1
صفحة 1 من اصل 1
نظرة جديدة إلى التراث الأدبي العربي 1
نظرة جديدة إلى التراث الأدبي العربي 1
الشيخ علي أبو الحسن الندوي
أصيب الأدب العربي بمحنة تصيب كل أدب، محنة تكاد تكون طبيعية ومطردة في الآداب واللغات، إلا أن آجالها تختلف من أدب إلى أدب، فقد يطول أجلها في أدب أمة من الأمم، ويقصر في أدب أمة أخرى، ويرجع ذلك إلى عوامل عدة، أهمها: الأحوال الاجتماعية والسياسية، وحركات الإصلاح والتجديد، والبعث الجديد، فإذا توافرت هذه العوامل في الأمة قصر أجل المحنة، وإذا فقدت أو ضعفت طال أجل المحنة، وطال شقاء الأدب – والأمة كلها - بها.
هذه المحنة هي: تسلط أصحاب التصنع والتكلف على الأدب، الذين يتخذونه حرفة وصناعة، ويتنافسون في تنميقه وتحبيره، ليثبتوا براعتهم وتفوقهم، وليصلوا به إلى أغراضٍ شخصية محضة.
وقد يطول هذا الأمر ويستفحل، حتى يصبح الأدب مقصوراً عليهم، ومختصاً بهم، ويأتي على الناس زمان لا يفهمون فيه من كلمة "الأدب" إلا ما أثر عن هذه الطبقة من كلام مصنوع، وأدب تقليدي، لا قوة فيه ولا روح، ولا جدة ولا متعة.
ويطغى هذا الأدب الصناعي التقليدي على كل ما يؤثر عن هذه الأمة، وتحتوي عليه مكتبتها الغنية الزاخرة، من أدب طبيعي وكلام مرسل، وتعبير بليغ يحرك النفوس، ويثير الإعجاب ويوسع آفاق الفكر، ويغري بالتقليد، ويبعث في النفس الثقة، ولا عيب فيه إلا أنه صدر عن رجال لم ينقطعوا إلى الأدب والإنشاء ولم يتخذوه حرفة ومكسباً، ولم يشتهروا بالصناعة الأدبية، ولم يكن لهذا النتاج الأدبي الجميل الرائع عنوان أدبي، ولم يكن في سياق أدبي، وإنما جاء في بحث ديني، أو كتاب علمي، أو موضوع فلسفي أو اجتماعي، فبقي مغموراً مطموراً في الأدب الديني أو الكتب العلمية، ولم يشأ الأدب الصناعي – بكبريائه - أن يفسح له في مجلسه ولم ينتبه له مؤرخو الأدب – لضيق تفكيرهم وقصور نظرهم - فينوّهوا به ويعطوه مكانه اللائق به.
إن هذا الأدب الطبيعي الجميل القوي كثير وقديم في المكتبة العربية، بل هو أكبر سناً وأسبق زمناً من الأدب الصناعي، فقد دُوّن هذا الأدب في كتب الحديث والسيرة قبل أن يُدوّن الأدب الصناعي في كتب الرسائل والمقامات، ولكنه لم يحظ من دراسة الأدباء والباحثين وعنايتهم ما حظي به الأدب الصناعي مع أنه هو الأدب الذي تجلت فيه عبقرية اللغة العربية وأسرارها وبراعة أهل اللغة ولياقتهم، وهو مدرسة الأدب الأصيلة الأولى.
ونأخذ كتب الحديث والسيرة – كمثال لهذا الأدب الطبيعي - أولاً فنقول: إنها اشتملت على معجزات بيانية وقطع أدبية ساحرة، تخلو منها مكتبة الأدب العربي – على سعتها وغناها - وهو دليل على صحة هذه اللغة ومرونتها، واقتدارها على التعبير الدقيق عن خواطر ومشاعر ووجدانيات وكيفيات نفسية عميقة دقيقة، ووصف بليغ مصور للحوادث الصغيرة، وهي الكتب التي حفظت لنا مناهج كلام العرب الأولين وأساليب بيانهم، ولئن صح ما قاله الرقاشي: (إن ما تكلمت به العرب من جيد المنثور، أكثر مما تكلمت به من جيد المنظوم، فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره) فكتب الحديث النبوي تسد هذا الفراغ الواقع في تاريخ الأدب العربي وتنقل إلينا هذا الذخر الأدبي الذي اعتُقِدَ أنه قد ضاع، وتمتاز أنها قد اتصل سندها وصحت روايتها فهي أوثق مصدر للغة العربية البليغة التي كانت سائدة في عهدها الذهبي الأول، وللأدب العربي الذي كان منتشراً في جزيرة العرب.
إن هذه الكتب تشتمل على روايات قصيرة وطويلة وكلها أمثلة جميلة للغة العرب العرباء التي كانوا يتكلمون بها ويعبرون فيها عن ضمائرهم وخواطرهم، ويجد دارس الأدب العربي فيها من البلاغة العربية والقدرة البيانية، والوصف الدقيق، والتعبير الرقيق، وعدم التكلف والصناعة ما يقف أمامه خاشعاً معترفاً للرواة بالبلاغة، والتحري في صحة النقل والرواية، وللغة العربية بالسعة والجمال.
أما الروايات الطويلة فهي ثروة أدبية ذات قيمة فنية عظيمة، وهي التي تجلت فيها بلاغة الراوي العربي واقتداره على الوصف والتعبير والتصوير، وهي التي يطول فيها نفسه فيحكي حكاية يعبر فيها عن معان كثيرة وأحاسيس دقيقة، ومناظر متنوعة، فلا يخذُله اللسان، ولا يخونه البيان، ولا يتخلف عنه مدد اللغة، وكأنها لوحة فنية منسجمة متناسقة قد أبدع فيه الفنان أو صورة متناسبة قد أحسن فيها المصور كل الإحساس.
اقرأ معي حديث كعب بن مالك عن تخلفه عن غزوة تبوك، وهو موضوع دقيق محرج، يطلب منه الصراحة والاعتراف بالتقصير، والشهادة على النفس، ويطلب منه تصوير ذلك الجو القاتم العابس الذي عاش فيه خمسين ليلة، ويطلب منه تصوير الخواطر التي كانت تجيش في صدره وتساور نفسه وهو يعيش في جفاء وعتاب ممن يحبهم وتربطه بهم العقيدة والعاطفة، لا يجد لذة في فراقهم ولا يرى في الدنيا عوضاً عنهم، وتصوير تلك الصلة الروحية والحب العميق الذي يربطه بالنبي صلى اله عليه وسلم ربطاً وثيقاً محكماً، لا يحله العتاب والعقاب، ولا يضعفه إقبال الملوك عليه وتوددهم إليه، وتصوير ذلك السرور الذي غمره على أثر قبول توبته، ما أصعب هذا الموضوع، وما أكثره تعقداً ودقة! ولكنه ببلاغته العربية يتغلب على هذه المشكلات النفسية والأدبية، ويترك لنا ثروة نعتز بها.
اقرأ معي هذه القطعة الصغيرة التي أقتبسُها من حديثه الطويل، وهو يحكي ما أحاط بهذه الغزوة العظيمة، من ظروف وأجواء، ويصور تلك الحالة النفسية التي تخلّف فيها عن هذه الغزوة وما انتابه من التردد، ولم يكن التخلف عن الغزوات من سيرته وعادته، وتمتع بما احتوت عليه هذه القطعة من القوة والجمال، وصدق التصوير وبراعة التعبير:
(وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أعدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد الجِدّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئاً، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت! فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم، أحزنني أن لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق أو رجلاً ممن عذره الله من الضعفاء).
ثم انظر كيف يصوّر حالته وقد هجره المسلمون ونُهُوا عن كلامه، وكيف يعبّر عن حالة المحب الذي هجره الحبيب – عقوبة وتأديباً - وهو يطمع في وده ويتسلى بنظراته، والذي لم يزده هذا العتاب إلا رسوخاً في المحبة ولوعة وجوى، دعه يقص قصته بلسانه البليغ:
(ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا - أيها الثلاثة - من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السلام أو لا؟ ثم أصلي قريباً منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ، فسلمت عليه فوالله ما ردّ عليّ السلام، فقلت:
- يا أبا قتادة! أنشدك بالله! هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدتُ له فنشدته فسكت فعدتُ له فنشدته فقال:
- الله ورسوله أعلم!
ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار).
واقرأ معي كذلك حديث الإفك الذي ظهرت فيه براعة السيدة عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها - الأدبية وقوتها البيانية، وحسن تصويرها ووصفها للعواطف والمشاعر النسوية اللطيفة الدقيقة، وقد تجلت في هذه القطعة رقة عاطفة المرأة المحبة لزوجها، مع إباء الحرة الواثقة بعفافها وطهارتها، المؤمنة بربها، وقد أضفى هذا المزيج الغريب من الرقة والشدة، والعاطفة والعقل – زد إلى ذلك بيان عائشة التي تقلبت في أعطاف البلاغة العربية وانتقلت فيها من بيت إلى بيت – أضفى كل ذلك على هذه الرواية من الجمال الفني ما يجعلها من القطع الأدبية الخالدة في الأدب.
انظر كيف تصف ما تقوّله الناس وتحدثوا به وما شعرت به من تغير في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، تذكر كل ذلك في حياء المرأة وأدبها من غير إبهام أو عَيّ:
(قالت عائشة: فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً والناس يفيضون في أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول كيف تيكم، ثم ينصرف فذلك يريبني، ولا أشعر بالشر).
وتذكر توجعها من الخبر المشاع فتقول: (فبكيتُ يومي ذلك كله، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: وأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوماً، لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي).
وتتقدم في الحكاية وتذكر كيف يسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عما قيل عنها ويعزم عليها الصدق، فلا تلبث أن تعتريها حمية المرأة العفيفة الفاضلة، ويقلص دمعها حتى لا تحس منه بقطرة، وترجو أباها وأمها أن يجيبا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمتعنان ويفضلان السكوت حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستحياء من الدفاع عن قضية بنتهما، وهو الدفاع عن النفس فتنبري للكلام القوي الصريح المبين – وهي البليغة الأديبة - وتتمثل بقول سيدنا يعقوب وتفوض أمرها إلى الله، وتتنزل براءتها من السماء، فتطلب منها أمها أن تشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقوم إليه فتأبى – في دلال العفائف وأنفة المؤمن - أن تحمد إلا الله الذي أنزل براءتها من فوق سبع سماوات، وخلّد طهارتها إلى آخر يوم يقرأ فيه القرآن ويؤمن به.
واقرأ كذلك حكايتها للهجرة النبوية، وذكرها لتفاصيلها وما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه في الطريق ووصولهما إلى المدينة وكيف تلقّاهما الأنصار، وفرحوا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك مثال رائع للوصف الدقيق البليغ، والبيان القادر الوصاف.
وهنالك روايات أخرى طويلة النَفَس، ضافية البيان، تشتمل على غرر الكلام وبدائعه الحسان، ومناهج العرب الأولين في كلامهم، كحديث صلح الحديبية، وحديث الإيلاء، وغير ذلك، كانت تستحق أن تكون في المكانة الأولى في دراساتنا الأدبية، ولكنها أفلتت من نظر المؤلفين والناقدين، لأنها لم تدخل في دواوين الأدب، ولأن تصورهم للأدب كان تصوراً محدوداً جامداً لا يعدو الصناعة.
ويلي الحديث كتب السيرة، فقد حفظت لنا جزءاً كبيراً من كلام العرب الأقحاح، ومثلت تلك اللغة البليغة التي كانت في عصور العربية الأولى وهذّبها الإسلام ورقّقها، واشتملت على قطع أدبية لا يوجد لها نظير في المكتبة العربية المتأخرة.
اقرأ في "سيرة ابن هشام" حديث حليمة ابنة أبي ذؤيب السعدية عن رضاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقرأ فيها قصص الاضطهاد والتعذيب، واقرأ فيها مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحروبه، واقرأ في كتب الحديث والشمائل وفي كتب التاريخ والسير أحاديث الوصف والحلية، تجد من القدرة الفائقة على الوصف والتعبير والبيان الساحر لدقائق الحياة وخوالج النفس وترى من اللغة النقية الصافية، واللفظ الخفيف، والتعبير الدقيق الرقيق، ما يطربك ويملؤك سروراً ولذة وثقة وإيماناً بعبقرية هذه اللغة، ورغبة في دراستها والتوسع فيها.
وهكذا صان الله هذه اللغة الكريمة الأمينة للقرآن من الضياع، وانتقلت ثروتها من جيل إلى جيل، ومن كتاب إلى كتاب، حتى جاء دور التأليف والتاريخ في القرن الثالث والرابع، وحفظ لنا المؤرخون أمثال الطبري والمسعودي والأدباء أمثال الجاحظ وابن قتيبة وأبي الفرج الأصفهاني ثروة زاخرة من الأدب في كتبهم وحفظوا لنا تلك اللغة العذبة البليغة التي كان العرب الصرحاء يتكلمون بها في بيوتهم وعلى موائدهم وفي مجالس انبساطهم، وجاء منها الشيء الكثير في "كتاب البخلاء" للجاحظ، و"كتاب الإمامة والسياسة" لابن قتيبة، و"كتاب الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، (على ضآلة قيمة الكتابين الأخيرين التاريخية) و"روضة العقلاء" لأبي حيّان التوحيدي، وهذه كتب التاريخ والأدب تمثل لنا العربية في جمالها الأول ونقائها الأصيل وسعتها النادرة.
ثم جاء دور المتكلمين المقلدين للعجم، ونبغ في العواصم العربية أمثال أبي إسحاق الصابي وأبي الفضل بن العميد والصاحب بن عبّاد، وأبي بكر الخوارزمي، وبديع الزمان الهمداني، وأبي العلاء المعري، واخترعوا أسلوباً للكتابة والإنشاء هو بالصناعة اليدوية والوشي والتطريز، أشبه منه بالبيان العربي السلسال وكلام العرب الأولين المرسل الجاري من الطبع، وغلب عليهم السجع والبديع، وغلوا في ذلك غلواً أذهب بهاء اللغة ورواءها وقيّد الأدب بسلاسل وأغلال أفقدته حريته وانطلاقه وخفة روحه وجماله.
وتزعّم هؤلاء الأدب العربي واحتكروه وخضع لهم العالم العربي والإسلامي، لقوة نفوذهم وعلو مكانتهم تارة، وللانحطاط الفكري والاجتماعي الذي كان يسود العالم الإسلامي تارة أخرى، وأصبح أسلوبهم في الكتابة هو الأسلوب الوحيد الذي يُحتذى ويقلد في العالم الإسلامي.
وجاء أبو القاسم الحريري فألف "المقامات" – وهو أسلوب الكتابة المسجعة المختمر - وقد تهيأت العقول لقبولها، فعكف عليها العالم الإسلامي دراسة وشرحاً وتقليداً وحفظاً، وتغلغلت في مدارس الفكر والأدب، وبقيت مسيطرة على العقول والأقلام أطول مدة تمتع بها كتاب أدبي، وما ذاك لفضل الكتاب، بل لأنه قد وافق هوى النفس وصادف عصر الجمود والعقم الأدبي في العالم الإسلامي.
ثم جاء القاضي الفاضل – مجدد أسلوب الحريري وبالأصح مقلده - وهو وزير أعظم دولة إسلامية في عصرها، وكاتب سر أحب سلطان في عهده، صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين ومعيد مجد المسلمين، فانتشر أسلوبه في العالم الإسلامي وحرص على تقليده الكتّاب والمنشئون في أنحاء المملكة الإسلامية.
وهكذا بقي أسلوب وحيد يتحكم في العالم الإسلامي ويسيطر على الأوساط الأدبية، وأصبح ما خلّفه هؤلاء الكتاب المتصنعون من تراث أدبي هو المعني بالأدب العربي، وجاء المؤرخون للأدب فاعتبروهم أئمة البلاغة وأمراء البيان وأصحاب الأساليب، وقدموا ما كتبوه وعرضوه للدارسين والباحثين، وقلد بعضهم بعضاً وتناقلوه، وأصبحت كتب التاريخ والأدب نسخة واحدة، وأصبحت الكتابة صورة واحدة من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر، لا يستثنى منها إلا عبقريان اثنان، أولهما ابن خلدون، وثانيهما الإمام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي(2) (م 1167هـ).
وتناسى هؤلاء ما كتب غيرهم وانصرف الناس – حتى الباحثين منهم - عن ذخائر الأدب العربي الثمينة، ولم يفكر أحد في أن يبحث في التاريخ والسير والتراجم وفي مؤلفات العلماء عن قطع أدبية رائعة تتفوق – في قوتها وحيويتها وسلاستها وسلامتها، وفي بلاغتها وجمال لغتها- على دواوين أدبية ومجاميع ورسائل أكبّ عليها الناس وافتتنوا بها.
هذا وقد بقيت طائفة من العلماء – حتى في عصور الانحطاط الأدبي- غير خاضعين لأسلوب تقليدي في عصرهم متحررين من السجع والبديع والصنائع والمحسنات اللفظية يكتبون ويؤلفون في لغة عربية نقية وفي أسلوب مطبوع يتدفق بالحياة، إذا قرأه الإنسان ملكه الإعجاب، وآمن بفكرتهم وخضع لعقيدتهم ولما يقررونه، وهذه القطع التي طُويت في أثناء كتب علمية أو دينية فجهلها الأدباء وزهد فيها تلاميذ الأدب هي من بقايا الأدب العربي الأصيل، وهي التي عاشت بها العربية هذه السنين الطوال وهي التي يفزع إليها المتأدب المتذوق، وهي رياض خضراء في صحراء العربية القاحلة التي تمتد من عصر ابن العميد إلى عصر القاضي الفاضل إلى أن جاء ابن خلدون.
إن ما كتبه هؤلاء العلماء، غير معتقدين أنهم يكتبون للأدب ولا زاعمين أنهم في مكانة عالية من الإنشاء، هو الذي يسعد العربية ويشرّفها، أكثر مما يسعدها ويشرفها كتابات الأدباء ورسائلهم وموضوعاتهم الأدبية، وأخاف لو أنهم قصدوا الأدب وتكلفوا الإنشاء لفسدت كتابتهم، وفقدت ذلك الرونق وتلك العذوبة التي تمتاز بها، وخسرنا هذه القطع الجميلة المليئة بالحياة، فقد التصقت بالأدب شروط وصفات وتقاليد هي المفسدة له، الطامسة لنوره، فلابد فيه من السجع والصناعة ولابد فيه من البديع والمحسنات اللفظية ولابد من تقليد من يعدّ في الطبقة الأولى من الأدباء، وأما الكتابات العلمية التاريخية والدينية فليست فيها هذه الالتزامات وهذه الشروط القاسية، لذلك تأتي أبلغ وأجمل.
ونرى الكاتب الواحد إذا تناول موضوعاً أدبياً وتكلف الإنشاء تدلّى وأسفَّ، وتعسف وتكلف، ولم يأت بخير، وإذا استرسل في الكلام وكتب في موضوع علمي أو ديني أحسن وأجاد، هكذا نرى الزمخشري متكلفاً مقلداً في "أطواق الذهب" وكاتباً موفقاً بليغاً في مقدمة "المفصل" وفي مواضع من تفسيره "الكشاف" ونجد ابن الجوزي غير موفق في كتابه: "المدهش" وكاتباً مترسلاً بليغاً في كتابه: "صيد الخاطر" وظني أنهما كانا يعتبران أثريهما الأدبيين "أطواق الذهب" و"المدهش" من أفضل كتابتهما الأدبية التي يعتمدان عليها ويفتخران بها، ولعل عصرهما صفق لهذين الكتابين "الأطواق" و"المدهش" أكثر مما صفق لكتاباتهما العلمية والأدبية والدينية، ولكن قاضي الزمان وحاكم الذوق قد حكما بالعدل، فليس اليوم للكتابين الأولين قيمة كبيرة، أما "صيد الخاطر" و"تلبيس إبليس" و"المفصل" و"الكشاف" فهي جديرة بالبقاء وجديرة بكل اعتناء.
ليس السر في فضل هذه الكتابات العلمية والدينية وتأثيرها وقوتها وجمالها هو التحرر من السجع والبديع وترسلها فحسب، بل السبب الأكبر هو أن هذه الكتابات قد كتبت عن عقيدة وعاطفة وعن فكرة واقتناع وعن حماسة وعزم، أما الكتابات الأدبية فقد كان غالبها يكتب بالاقتراح من ملك أو وزير أو صديق، أو لإرضاء شهوة الأدب أو تحقيق رغبة المجتمع، أو حباً للظهور والتفوق، وهذه كلها دوافع سطحية لا تمنح الكتابة القوة والروح ولا تسبغ عليها لباس البقاء والخلود ولا تعطيها التأثير في النفوس والقلوب، والفرق بينها وبين الكتابات المنبعثة من القلب والعقيدة كالفرق بين الصورة والإنسان، وكالفرق بين النائحة والثكلى.
ويذكرني هذا قصة رويناها في الصبا وهي: أن كلباً قال لغزال: مالي لا ألحقك وأنا من تعرف في العدو والقوة؟ قال: لأنك تعدو لسيّدك وأنا أعدو لنفسي.
وقد كان هؤلاء الكتّاب المؤمنون الذين ملكتهم فكرة أو عقيدة أو يكتبون لأنفسهم، يكتبون إجابة لنداء ضميرهم وعقيدتهم مندفعين منبعثين، فتشتعل مواهبهم ويفيض خاطرهم ويتحرق قلبهم، فتنثال عليهم المعاني وتطاوعهم الألفاظ وتؤثر كتاباتهم في نفوس قرائها لأنها خرجت من قلب فلا تستقر إلا في قلب.
أما هؤلاء المتصنعون فإنهم في كتاباتهم الأدبية أشبه بالممثلين، قد يمثلون الملوك فيتصنعون أبهة الملك ومظاهره، وقد يمثلون الصعلوك فيتظاهرون بالفقر، وقد يمثلون السعيد، وقد يمثلون الشقي من غير أن يذوقوا لذة السعادة أو يكتووا بنار الشقاء، وقد يعزّون من غير أن يشاركوا المفجوع في أحزانه، وقد يهنئون من غير أن يشاركوا السعيد في أفراحه.
بالعكس من ذلك اقرأ كتابات الغزالي في "الإحياء" وفي "المنقذ من الضلال" واقرأ خطب الشيخ عبد القادر الجيلي (رضي الله عنه) ما صحّ منها، واقرأ ما كتبه القاضي ابن شداد عن صلاح الدين، واقرأ ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الحافظ ابن قيم الجوزية في كتبهما، ترى مثالاً رائعاً للكتابة الأدبية العالية يتدفق قوة وحياة وتأثيراً، وذلك هو الأدب الحيُّ الخليق بالبقاء، ولا سبب لذلك إلا أنه كتب عن عقيدة وعاطفة.
وهنالك شيء آخر وهو أن الإيمان وصفاء النفس والاشتغال بالله والعزوف عن الشهوات يمنح صاحبه صفاء حس ولطافة نفس وعذوبة روح ونفوذاً إلى المعاني الدقيقة واقتداراً على التعبير البليغ، فتأتي كتابته كأنها قطعة من نفس صاحبها وصورة لروحه، خفيفة على النفس مشرقة الديباجة لطيفة السبك، بارعة في التصوير، لذلك كان من الأدب الصوفي ومن كلام الصالحين العارفين قطع أدبية خالدة لم تفقد جمالها وقوتها على مر العصور والأجيال، وترى من ذلك نماذج في كلام السادة: الحسن البصري، وابن السماك، والفضيل بن عياض، وابن عربي الطائي، تعدّ من محاسن العربية، واقرأ – على سبيل المثال - الحوار الذي دار بين ابن عربي ونفسه وسجّله في كتابه "رسالة روح القدس".
إن هذه القطع الأدبية الدافقة بالحياة والقوة والجمال كثيرة غير قليلة في المكتبة العربية، إذا جمعت تكونت منها مكتبة، لكنها منثورة مبعثرة، مطوية مغمورة في أوراق كتب ومؤلفات لا تجده في ركن الأدب والإنشاء في مكتباتنا العربية، ولا يذكرها المؤرخون للأدب في كتبهم، هذه القطع أصدق تمثيلاً للغة العربية وأدبها الرفيع ومحاسنه من كثير من الكتب المختصة بالأدب، ومن كثير من المجاميع والرسائل والمقامات الأدبية التي تعتبر أساس الأدب وزهو العربية ومحصول العقول.
وهذه القطع هي التي تخدم اللغة والأدب أكثر مما تخدمها كتب اللغة والأدب، وهي التي تفتق القريحة وتنشط الذهن وتقوي الذوق السليم وتعلم الكتابة الحقيقية.
إن هذه القطع والنصوص منثورة كما قلت في كتب الحديث والسيرة والتاريخ وكتب الطبقات والتراجم والرحلات، وفي الكتب التي ألفت في الإصلاح والدين والأخلاق والاجتماع، وفي بحوث علمية ودينية، وفي كتب الوعظ والتصوف، وفي الكتب التي سجل فيها المؤلفون خواطرهم وتجارب حياتهم، وملاحظاتهم وانطباعاتهم ورووا فيها قصة حياتهم.
وهذه ثروة أدبية زاخرة تكاد تكون ضائعة، وقد جنى الإهمال على اللغة والأدب وعلى الكتابة والإنشاء وعلى التأليف والتصنيف وعلى التفكير، فحرمه مادة غزيرة من التعبير وباعثاً قوياً للتفكير.
مخطئ من يظن أن المكتبة العربية قد استنفدت وعُصرت إلى آخر قطراتها، إنها لا تزال مجهولة تحتاج إلى اكتشافات ومغامرات، إنها لا تزال بكراً جديدة تعطي الجديد وتفاجأ بالغريب المجهول، إنها لا تزال فيها ثروة دفينة تنتظر من يحفرها ويثيرها.
إن مكتبة الأدب العربي في حاجة شديدة إلى استعراض جديد وإلى دراسة جديدة وإلى عرض جديد.
ولكن هذه الدراسة وهذا الاستعراض يحتاجان إلى شيء كبير من الشجاعة وإلى شيء كبير من الصبر والاحتمال وإلى شيء كبير من رحابة الصدر وسعة النظر، فالذي يخوض فيها ليخرج على العالم بتحف أدبية جديدة وذخائر عربية جديدة، ينبغي أن لا يكون ضيّق التفكير، جامداً متعصباً في فهمه للأدب، متعصباً لبلد أو لطبقة أو لعصر، تهوله ضخامة العمل، واتساع المكتبة العربية، أو يوحشه عنوان ديني، أو يمنعه – من الاختيار والدراسة - اسم قديم لا صلة له بالأدب والأدباء، يجب أن يكون حر التفكير، واسع الأفق بعيد النظر متطلعاً إلى الدراسة والتجربة، واسع الاطلاع على الكنوز القديمة، يفهم الأدب في أوسع معانيه ويعتقد أنه تعبير عن الحياة وعن الشعور والوجدان في أسلوب مُفهم مؤثر لا غير.
إنني لا أزدري كتب الأدب القديمة – من رسائل ومقامات وغيرها - ولا أقلل قيمتها اللغوية والفنية وأعتقد أنها مرحلة طبعية في حياة اللغات والآداب، ولكنني أعتقد أيضاً أنها ليست الأدب كله، وأنها لا تحسن تمثيل أدبنا العالي الذي هو من أجمل آداب العالم وأوسعها، وأنها جنت على القرائح والملكات الكتابية والمواهب والطاقات، وعلى صلاحية اللغة العربي ومنعت من التوسع والانطلاق في آفاق الفكر، والتعبير والتحليق في أجواء الحقيقة والخيال، وتخلفت بهذه الأمة العظيمة ذات اللغة العبقرية والأدب الغني فترة غير قصيرة، فخير لنا أن نعطيها حظها من العناية والدراسة ونضعها في مكانها الطبقي في تاريخ الأدب وطبقات الأدباء، وأن ننقّب في المكتبة العربية من جديد، ونعرض على ناشئتنا وعلى الجيل الجديد نماذج جديدة من الكتب القديمة للأدب حتى يتذوق جمال هذه اللغة وينشأ على الإبانة والتعبير البليغ، ويتعرّف على هذه المكتبة الواسعة ويستطيع أن يفيد منها.
(1) قدم هذا المقال إلى "مجلة اللغة العربية" التي يصدرها المجمع العلمي العربي بدمشق (مجمع اللغة العربية حالياً) حين اختير الكاتب عضواً مراسلاً فيه، وجعله مقدمة لكتابه "مختارات من أدب العرب".
(2) اقرأ كتابه الفريد: "حجة الله البالغة" واقرأ ترجمة مؤلفه في "نزهة الخواطر" الجزء السادس، طبع دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد (الهند) وكتاب صاحب هذه المقالات: الإمام الدهلوي (الجزء الرابع من "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" طبع دار القلم الكويتية).
الشيخ علي أبو الحسن الندوي
أصيب الأدب العربي بمحنة تصيب كل أدب، محنة تكاد تكون طبيعية ومطردة في الآداب واللغات، إلا أن آجالها تختلف من أدب إلى أدب، فقد يطول أجلها في أدب أمة من الأمم، ويقصر في أدب أمة أخرى، ويرجع ذلك إلى عوامل عدة، أهمها: الأحوال الاجتماعية والسياسية، وحركات الإصلاح والتجديد، والبعث الجديد، فإذا توافرت هذه العوامل في الأمة قصر أجل المحنة، وإذا فقدت أو ضعفت طال أجل المحنة، وطال شقاء الأدب – والأمة كلها - بها.
هذه المحنة هي: تسلط أصحاب التصنع والتكلف على الأدب، الذين يتخذونه حرفة وصناعة، ويتنافسون في تنميقه وتحبيره، ليثبتوا براعتهم وتفوقهم، وليصلوا به إلى أغراضٍ شخصية محضة.
وقد يطول هذا الأمر ويستفحل، حتى يصبح الأدب مقصوراً عليهم، ومختصاً بهم، ويأتي على الناس زمان لا يفهمون فيه من كلمة "الأدب" إلا ما أثر عن هذه الطبقة من كلام مصنوع، وأدب تقليدي، لا قوة فيه ولا روح، ولا جدة ولا متعة.
ويطغى هذا الأدب الصناعي التقليدي على كل ما يؤثر عن هذه الأمة، وتحتوي عليه مكتبتها الغنية الزاخرة، من أدب طبيعي وكلام مرسل، وتعبير بليغ يحرك النفوس، ويثير الإعجاب ويوسع آفاق الفكر، ويغري بالتقليد، ويبعث في النفس الثقة، ولا عيب فيه إلا أنه صدر عن رجال لم ينقطعوا إلى الأدب والإنشاء ولم يتخذوه حرفة ومكسباً، ولم يشتهروا بالصناعة الأدبية، ولم يكن لهذا النتاج الأدبي الجميل الرائع عنوان أدبي، ولم يكن في سياق أدبي، وإنما جاء في بحث ديني، أو كتاب علمي، أو موضوع فلسفي أو اجتماعي، فبقي مغموراً مطموراً في الأدب الديني أو الكتب العلمية، ولم يشأ الأدب الصناعي – بكبريائه - أن يفسح له في مجلسه ولم ينتبه له مؤرخو الأدب – لضيق تفكيرهم وقصور نظرهم - فينوّهوا به ويعطوه مكانه اللائق به.
إن هذا الأدب الطبيعي الجميل القوي كثير وقديم في المكتبة العربية، بل هو أكبر سناً وأسبق زمناً من الأدب الصناعي، فقد دُوّن هذا الأدب في كتب الحديث والسيرة قبل أن يُدوّن الأدب الصناعي في كتب الرسائل والمقامات، ولكنه لم يحظ من دراسة الأدباء والباحثين وعنايتهم ما حظي به الأدب الصناعي مع أنه هو الأدب الذي تجلت فيه عبقرية اللغة العربية وأسرارها وبراعة أهل اللغة ولياقتهم، وهو مدرسة الأدب الأصيلة الأولى.
ونأخذ كتب الحديث والسيرة – كمثال لهذا الأدب الطبيعي - أولاً فنقول: إنها اشتملت على معجزات بيانية وقطع أدبية ساحرة، تخلو منها مكتبة الأدب العربي – على سعتها وغناها - وهو دليل على صحة هذه اللغة ومرونتها، واقتدارها على التعبير الدقيق عن خواطر ومشاعر ووجدانيات وكيفيات نفسية عميقة دقيقة، ووصف بليغ مصور للحوادث الصغيرة، وهي الكتب التي حفظت لنا مناهج كلام العرب الأولين وأساليب بيانهم، ولئن صح ما قاله الرقاشي: (إن ما تكلمت به العرب من جيد المنثور، أكثر مما تكلمت به من جيد المنظوم، فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره) فكتب الحديث النبوي تسد هذا الفراغ الواقع في تاريخ الأدب العربي وتنقل إلينا هذا الذخر الأدبي الذي اعتُقِدَ أنه قد ضاع، وتمتاز أنها قد اتصل سندها وصحت روايتها فهي أوثق مصدر للغة العربية البليغة التي كانت سائدة في عهدها الذهبي الأول، وللأدب العربي الذي كان منتشراً في جزيرة العرب.
إن هذه الكتب تشتمل على روايات قصيرة وطويلة وكلها أمثلة جميلة للغة العرب العرباء التي كانوا يتكلمون بها ويعبرون فيها عن ضمائرهم وخواطرهم، ويجد دارس الأدب العربي فيها من البلاغة العربية والقدرة البيانية، والوصف الدقيق، والتعبير الرقيق، وعدم التكلف والصناعة ما يقف أمامه خاشعاً معترفاً للرواة بالبلاغة، والتحري في صحة النقل والرواية، وللغة العربية بالسعة والجمال.
أما الروايات الطويلة فهي ثروة أدبية ذات قيمة فنية عظيمة، وهي التي تجلت فيها بلاغة الراوي العربي واقتداره على الوصف والتعبير والتصوير، وهي التي يطول فيها نفسه فيحكي حكاية يعبر فيها عن معان كثيرة وأحاسيس دقيقة، ومناظر متنوعة، فلا يخذُله اللسان، ولا يخونه البيان، ولا يتخلف عنه مدد اللغة، وكأنها لوحة فنية منسجمة متناسقة قد أبدع فيه الفنان أو صورة متناسبة قد أحسن فيها المصور كل الإحساس.
اقرأ معي حديث كعب بن مالك عن تخلفه عن غزوة تبوك، وهو موضوع دقيق محرج، يطلب منه الصراحة والاعتراف بالتقصير، والشهادة على النفس، ويطلب منه تصوير ذلك الجو القاتم العابس الذي عاش فيه خمسين ليلة، ويطلب منه تصوير الخواطر التي كانت تجيش في صدره وتساور نفسه وهو يعيش في جفاء وعتاب ممن يحبهم وتربطه بهم العقيدة والعاطفة، لا يجد لذة في فراقهم ولا يرى في الدنيا عوضاً عنهم، وتصوير تلك الصلة الروحية والحب العميق الذي يربطه بالنبي صلى اله عليه وسلم ربطاً وثيقاً محكماً، لا يحله العتاب والعقاب، ولا يضعفه إقبال الملوك عليه وتوددهم إليه، وتصوير ذلك السرور الذي غمره على أثر قبول توبته، ما أصعب هذا الموضوع، وما أكثره تعقداً ودقة! ولكنه ببلاغته العربية يتغلب على هذه المشكلات النفسية والأدبية، ويترك لنا ثروة نعتز بها.
اقرأ معي هذه القطعة الصغيرة التي أقتبسُها من حديثه الطويل، وهو يحكي ما أحاط بهذه الغزوة العظيمة، من ظروف وأجواء، ويصور تلك الحالة النفسية التي تخلّف فيها عن هذه الغزوة وما انتابه من التردد، ولم يكن التخلف عن الغزوات من سيرته وعادته، وتمتع بما احتوت عليه هذه القطعة من القوة والجمال، وصدق التصوير وبراعة التعبير:
(وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أعدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد الجِدّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئاً، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت! فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم، أحزنني أن لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق أو رجلاً ممن عذره الله من الضعفاء).
ثم انظر كيف يصوّر حالته وقد هجره المسلمون ونُهُوا عن كلامه، وكيف يعبّر عن حالة المحب الذي هجره الحبيب – عقوبة وتأديباً - وهو يطمع في وده ويتسلى بنظراته، والذي لم يزده هذا العتاب إلا رسوخاً في المحبة ولوعة وجوى، دعه يقص قصته بلسانه البليغ:
(ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا - أيها الثلاثة - من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السلام أو لا؟ ثم أصلي قريباً منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ، فسلمت عليه فوالله ما ردّ عليّ السلام، فقلت:
- يا أبا قتادة! أنشدك بالله! هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدتُ له فنشدته فسكت فعدتُ له فنشدته فقال:
- الله ورسوله أعلم!
ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار).
واقرأ معي كذلك حديث الإفك الذي ظهرت فيه براعة السيدة عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها - الأدبية وقوتها البيانية، وحسن تصويرها ووصفها للعواطف والمشاعر النسوية اللطيفة الدقيقة، وقد تجلت في هذه القطعة رقة عاطفة المرأة المحبة لزوجها، مع إباء الحرة الواثقة بعفافها وطهارتها، المؤمنة بربها، وقد أضفى هذا المزيج الغريب من الرقة والشدة، والعاطفة والعقل – زد إلى ذلك بيان عائشة التي تقلبت في أعطاف البلاغة العربية وانتقلت فيها من بيت إلى بيت – أضفى كل ذلك على هذه الرواية من الجمال الفني ما يجعلها من القطع الأدبية الخالدة في الأدب.
انظر كيف تصف ما تقوّله الناس وتحدثوا به وما شعرت به من تغير في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، تذكر كل ذلك في حياء المرأة وأدبها من غير إبهام أو عَيّ:
(قالت عائشة: فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً والناس يفيضون في أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول كيف تيكم، ثم ينصرف فذلك يريبني، ولا أشعر بالشر).
وتذكر توجعها من الخبر المشاع فتقول: (فبكيتُ يومي ذلك كله، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: وأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوماً، لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي).
وتتقدم في الحكاية وتذكر كيف يسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عما قيل عنها ويعزم عليها الصدق، فلا تلبث أن تعتريها حمية المرأة العفيفة الفاضلة، ويقلص دمعها حتى لا تحس منه بقطرة، وترجو أباها وأمها أن يجيبا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمتعنان ويفضلان السكوت حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستحياء من الدفاع عن قضية بنتهما، وهو الدفاع عن النفس فتنبري للكلام القوي الصريح المبين – وهي البليغة الأديبة - وتتمثل بقول سيدنا يعقوب وتفوض أمرها إلى الله، وتتنزل براءتها من السماء، فتطلب منها أمها أن تشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقوم إليه فتأبى – في دلال العفائف وأنفة المؤمن - أن تحمد إلا الله الذي أنزل براءتها من فوق سبع سماوات، وخلّد طهارتها إلى آخر يوم يقرأ فيه القرآن ويؤمن به.
واقرأ كذلك حكايتها للهجرة النبوية، وذكرها لتفاصيلها وما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه في الطريق ووصولهما إلى المدينة وكيف تلقّاهما الأنصار، وفرحوا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك مثال رائع للوصف الدقيق البليغ، والبيان القادر الوصاف.
وهنالك روايات أخرى طويلة النَفَس، ضافية البيان، تشتمل على غرر الكلام وبدائعه الحسان، ومناهج العرب الأولين في كلامهم، كحديث صلح الحديبية، وحديث الإيلاء، وغير ذلك، كانت تستحق أن تكون في المكانة الأولى في دراساتنا الأدبية، ولكنها أفلتت من نظر المؤلفين والناقدين، لأنها لم تدخل في دواوين الأدب، ولأن تصورهم للأدب كان تصوراً محدوداً جامداً لا يعدو الصناعة.
ويلي الحديث كتب السيرة، فقد حفظت لنا جزءاً كبيراً من كلام العرب الأقحاح، ومثلت تلك اللغة البليغة التي كانت في عصور العربية الأولى وهذّبها الإسلام ورقّقها، واشتملت على قطع أدبية لا يوجد لها نظير في المكتبة العربية المتأخرة.
اقرأ في "سيرة ابن هشام" حديث حليمة ابنة أبي ذؤيب السعدية عن رضاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقرأ فيها قصص الاضطهاد والتعذيب، واقرأ فيها مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحروبه، واقرأ في كتب الحديث والشمائل وفي كتب التاريخ والسير أحاديث الوصف والحلية، تجد من القدرة الفائقة على الوصف والتعبير والبيان الساحر لدقائق الحياة وخوالج النفس وترى من اللغة النقية الصافية، واللفظ الخفيف، والتعبير الدقيق الرقيق، ما يطربك ويملؤك سروراً ولذة وثقة وإيماناً بعبقرية هذه اللغة، ورغبة في دراستها والتوسع فيها.
وهكذا صان الله هذه اللغة الكريمة الأمينة للقرآن من الضياع، وانتقلت ثروتها من جيل إلى جيل، ومن كتاب إلى كتاب، حتى جاء دور التأليف والتاريخ في القرن الثالث والرابع، وحفظ لنا المؤرخون أمثال الطبري والمسعودي والأدباء أمثال الجاحظ وابن قتيبة وأبي الفرج الأصفهاني ثروة زاخرة من الأدب في كتبهم وحفظوا لنا تلك اللغة العذبة البليغة التي كان العرب الصرحاء يتكلمون بها في بيوتهم وعلى موائدهم وفي مجالس انبساطهم، وجاء منها الشيء الكثير في "كتاب البخلاء" للجاحظ، و"كتاب الإمامة والسياسة" لابن قتيبة، و"كتاب الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، (على ضآلة قيمة الكتابين الأخيرين التاريخية) و"روضة العقلاء" لأبي حيّان التوحيدي، وهذه كتب التاريخ والأدب تمثل لنا العربية في جمالها الأول ونقائها الأصيل وسعتها النادرة.
ثم جاء دور المتكلمين المقلدين للعجم، ونبغ في العواصم العربية أمثال أبي إسحاق الصابي وأبي الفضل بن العميد والصاحب بن عبّاد، وأبي بكر الخوارزمي، وبديع الزمان الهمداني، وأبي العلاء المعري، واخترعوا أسلوباً للكتابة والإنشاء هو بالصناعة اليدوية والوشي والتطريز، أشبه منه بالبيان العربي السلسال وكلام العرب الأولين المرسل الجاري من الطبع، وغلب عليهم السجع والبديع، وغلوا في ذلك غلواً أذهب بهاء اللغة ورواءها وقيّد الأدب بسلاسل وأغلال أفقدته حريته وانطلاقه وخفة روحه وجماله.
وتزعّم هؤلاء الأدب العربي واحتكروه وخضع لهم العالم العربي والإسلامي، لقوة نفوذهم وعلو مكانتهم تارة، وللانحطاط الفكري والاجتماعي الذي كان يسود العالم الإسلامي تارة أخرى، وأصبح أسلوبهم في الكتابة هو الأسلوب الوحيد الذي يُحتذى ويقلد في العالم الإسلامي.
وجاء أبو القاسم الحريري فألف "المقامات" – وهو أسلوب الكتابة المسجعة المختمر - وقد تهيأت العقول لقبولها، فعكف عليها العالم الإسلامي دراسة وشرحاً وتقليداً وحفظاً، وتغلغلت في مدارس الفكر والأدب، وبقيت مسيطرة على العقول والأقلام أطول مدة تمتع بها كتاب أدبي، وما ذاك لفضل الكتاب، بل لأنه قد وافق هوى النفس وصادف عصر الجمود والعقم الأدبي في العالم الإسلامي.
ثم جاء القاضي الفاضل – مجدد أسلوب الحريري وبالأصح مقلده - وهو وزير أعظم دولة إسلامية في عصرها، وكاتب سر أحب سلطان في عهده، صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين ومعيد مجد المسلمين، فانتشر أسلوبه في العالم الإسلامي وحرص على تقليده الكتّاب والمنشئون في أنحاء المملكة الإسلامية.
وهكذا بقي أسلوب وحيد يتحكم في العالم الإسلامي ويسيطر على الأوساط الأدبية، وأصبح ما خلّفه هؤلاء الكتاب المتصنعون من تراث أدبي هو المعني بالأدب العربي، وجاء المؤرخون للأدب فاعتبروهم أئمة البلاغة وأمراء البيان وأصحاب الأساليب، وقدموا ما كتبوه وعرضوه للدارسين والباحثين، وقلد بعضهم بعضاً وتناقلوه، وأصبحت كتب التاريخ والأدب نسخة واحدة، وأصبحت الكتابة صورة واحدة من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر، لا يستثنى منها إلا عبقريان اثنان، أولهما ابن خلدون، وثانيهما الإمام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي(2) (م 1167هـ).
وتناسى هؤلاء ما كتب غيرهم وانصرف الناس – حتى الباحثين منهم - عن ذخائر الأدب العربي الثمينة، ولم يفكر أحد في أن يبحث في التاريخ والسير والتراجم وفي مؤلفات العلماء عن قطع أدبية رائعة تتفوق – في قوتها وحيويتها وسلاستها وسلامتها، وفي بلاغتها وجمال لغتها- على دواوين أدبية ومجاميع ورسائل أكبّ عليها الناس وافتتنوا بها.
هذا وقد بقيت طائفة من العلماء – حتى في عصور الانحطاط الأدبي- غير خاضعين لأسلوب تقليدي في عصرهم متحررين من السجع والبديع والصنائع والمحسنات اللفظية يكتبون ويؤلفون في لغة عربية نقية وفي أسلوب مطبوع يتدفق بالحياة، إذا قرأه الإنسان ملكه الإعجاب، وآمن بفكرتهم وخضع لعقيدتهم ولما يقررونه، وهذه القطع التي طُويت في أثناء كتب علمية أو دينية فجهلها الأدباء وزهد فيها تلاميذ الأدب هي من بقايا الأدب العربي الأصيل، وهي التي عاشت بها العربية هذه السنين الطوال وهي التي يفزع إليها المتأدب المتذوق، وهي رياض خضراء في صحراء العربية القاحلة التي تمتد من عصر ابن العميد إلى عصر القاضي الفاضل إلى أن جاء ابن خلدون.
إن ما كتبه هؤلاء العلماء، غير معتقدين أنهم يكتبون للأدب ولا زاعمين أنهم في مكانة عالية من الإنشاء، هو الذي يسعد العربية ويشرّفها، أكثر مما يسعدها ويشرفها كتابات الأدباء ورسائلهم وموضوعاتهم الأدبية، وأخاف لو أنهم قصدوا الأدب وتكلفوا الإنشاء لفسدت كتابتهم، وفقدت ذلك الرونق وتلك العذوبة التي تمتاز بها، وخسرنا هذه القطع الجميلة المليئة بالحياة، فقد التصقت بالأدب شروط وصفات وتقاليد هي المفسدة له، الطامسة لنوره، فلابد فيه من السجع والصناعة ولابد فيه من البديع والمحسنات اللفظية ولابد من تقليد من يعدّ في الطبقة الأولى من الأدباء، وأما الكتابات العلمية التاريخية والدينية فليست فيها هذه الالتزامات وهذه الشروط القاسية، لذلك تأتي أبلغ وأجمل.
ونرى الكاتب الواحد إذا تناول موضوعاً أدبياً وتكلف الإنشاء تدلّى وأسفَّ، وتعسف وتكلف، ولم يأت بخير، وإذا استرسل في الكلام وكتب في موضوع علمي أو ديني أحسن وأجاد، هكذا نرى الزمخشري متكلفاً مقلداً في "أطواق الذهب" وكاتباً موفقاً بليغاً في مقدمة "المفصل" وفي مواضع من تفسيره "الكشاف" ونجد ابن الجوزي غير موفق في كتابه: "المدهش" وكاتباً مترسلاً بليغاً في كتابه: "صيد الخاطر" وظني أنهما كانا يعتبران أثريهما الأدبيين "أطواق الذهب" و"المدهش" من أفضل كتابتهما الأدبية التي يعتمدان عليها ويفتخران بها، ولعل عصرهما صفق لهذين الكتابين "الأطواق" و"المدهش" أكثر مما صفق لكتاباتهما العلمية والأدبية والدينية، ولكن قاضي الزمان وحاكم الذوق قد حكما بالعدل، فليس اليوم للكتابين الأولين قيمة كبيرة، أما "صيد الخاطر" و"تلبيس إبليس" و"المفصل" و"الكشاف" فهي جديرة بالبقاء وجديرة بكل اعتناء.
ليس السر في فضل هذه الكتابات العلمية والدينية وتأثيرها وقوتها وجمالها هو التحرر من السجع والبديع وترسلها فحسب، بل السبب الأكبر هو أن هذه الكتابات قد كتبت عن عقيدة وعاطفة وعن فكرة واقتناع وعن حماسة وعزم، أما الكتابات الأدبية فقد كان غالبها يكتب بالاقتراح من ملك أو وزير أو صديق، أو لإرضاء شهوة الأدب أو تحقيق رغبة المجتمع، أو حباً للظهور والتفوق، وهذه كلها دوافع سطحية لا تمنح الكتابة القوة والروح ولا تسبغ عليها لباس البقاء والخلود ولا تعطيها التأثير في النفوس والقلوب، والفرق بينها وبين الكتابات المنبعثة من القلب والعقيدة كالفرق بين الصورة والإنسان، وكالفرق بين النائحة والثكلى.
ويذكرني هذا قصة رويناها في الصبا وهي: أن كلباً قال لغزال: مالي لا ألحقك وأنا من تعرف في العدو والقوة؟ قال: لأنك تعدو لسيّدك وأنا أعدو لنفسي.
وقد كان هؤلاء الكتّاب المؤمنون الذين ملكتهم فكرة أو عقيدة أو يكتبون لأنفسهم، يكتبون إجابة لنداء ضميرهم وعقيدتهم مندفعين منبعثين، فتشتعل مواهبهم ويفيض خاطرهم ويتحرق قلبهم، فتنثال عليهم المعاني وتطاوعهم الألفاظ وتؤثر كتاباتهم في نفوس قرائها لأنها خرجت من قلب فلا تستقر إلا في قلب.
أما هؤلاء المتصنعون فإنهم في كتاباتهم الأدبية أشبه بالممثلين، قد يمثلون الملوك فيتصنعون أبهة الملك ومظاهره، وقد يمثلون الصعلوك فيتظاهرون بالفقر، وقد يمثلون السعيد، وقد يمثلون الشقي من غير أن يذوقوا لذة السعادة أو يكتووا بنار الشقاء، وقد يعزّون من غير أن يشاركوا المفجوع في أحزانه، وقد يهنئون من غير أن يشاركوا السعيد في أفراحه.
بالعكس من ذلك اقرأ كتابات الغزالي في "الإحياء" وفي "المنقذ من الضلال" واقرأ خطب الشيخ عبد القادر الجيلي (رضي الله عنه) ما صحّ منها، واقرأ ما كتبه القاضي ابن شداد عن صلاح الدين، واقرأ ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الحافظ ابن قيم الجوزية في كتبهما، ترى مثالاً رائعاً للكتابة الأدبية العالية يتدفق قوة وحياة وتأثيراً، وذلك هو الأدب الحيُّ الخليق بالبقاء، ولا سبب لذلك إلا أنه كتب عن عقيدة وعاطفة.
وهنالك شيء آخر وهو أن الإيمان وصفاء النفس والاشتغال بالله والعزوف عن الشهوات يمنح صاحبه صفاء حس ولطافة نفس وعذوبة روح ونفوذاً إلى المعاني الدقيقة واقتداراً على التعبير البليغ، فتأتي كتابته كأنها قطعة من نفس صاحبها وصورة لروحه، خفيفة على النفس مشرقة الديباجة لطيفة السبك، بارعة في التصوير، لذلك كان من الأدب الصوفي ومن كلام الصالحين العارفين قطع أدبية خالدة لم تفقد جمالها وقوتها على مر العصور والأجيال، وترى من ذلك نماذج في كلام السادة: الحسن البصري، وابن السماك، والفضيل بن عياض، وابن عربي الطائي، تعدّ من محاسن العربية، واقرأ – على سبيل المثال - الحوار الذي دار بين ابن عربي ونفسه وسجّله في كتابه "رسالة روح القدس".
إن هذه القطع الأدبية الدافقة بالحياة والقوة والجمال كثيرة غير قليلة في المكتبة العربية، إذا جمعت تكونت منها مكتبة، لكنها منثورة مبعثرة، مطوية مغمورة في أوراق كتب ومؤلفات لا تجده في ركن الأدب والإنشاء في مكتباتنا العربية، ولا يذكرها المؤرخون للأدب في كتبهم، هذه القطع أصدق تمثيلاً للغة العربية وأدبها الرفيع ومحاسنه من كثير من الكتب المختصة بالأدب، ومن كثير من المجاميع والرسائل والمقامات الأدبية التي تعتبر أساس الأدب وزهو العربية ومحصول العقول.
وهذه القطع هي التي تخدم اللغة والأدب أكثر مما تخدمها كتب اللغة والأدب، وهي التي تفتق القريحة وتنشط الذهن وتقوي الذوق السليم وتعلم الكتابة الحقيقية.
إن هذه القطع والنصوص منثورة كما قلت في كتب الحديث والسيرة والتاريخ وكتب الطبقات والتراجم والرحلات، وفي الكتب التي ألفت في الإصلاح والدين والأخلاق والاجتماع، وفي بحوث علمية ودينية، وفي كتب الوعظ والتصوف، وفي الكتب التي سجل فيها المؤلفون خواطرهم وتجارب حياتهم، وملاحظاتهم وانطباعاتهم ورووا فيها قصة حياتهم.
وهذه ثروة أدبية زاخرة تكاد تكون ضائعة، وقد جنى الإهمال على اللغة والأدب وعلى الكتابة والإنشاء وعلى التأليف والتصنيف وعلى التفكير، فحرمه مادة غزيرة من التعبير وباعثاً قوياً للتفكير.
مخطئ من يظن أن المكتبة العربية قد استنفدت وعُصرت إلى آخر قطراتها، إنها لا تزال مجهولة تحتاج إلى اكتشافات ومغامرات، إنها لا تزال بكراً جديدة تعطي الجديد وتفاجأ بالغريب المجهول، إنها لا تزال فيها ثروة دفينة تنتظر من يحفرها ويثيرها.
إن مكتبة الأدب العربي في حاجة شديدة إلى استعراض جديد وإلى دراسة جديدة وإلى عرض جديد.
ولكن هذه الدراسة وهذا الاستعراض يحتاجان إلى شيء كبير من الشجاعة وإلى شيء كبير من الصبر والاحتمال وإلى شيء كبير من رحابة الصدر وسعة النظر، فالذي يخوض فيها ليخرج على العالم بتحف أدبية جديدة وذخائر عربية جديدة، ينبغي أن لا يكون ضيّق التفكير، جامداً متعصباً في فهمه للأدب، متعصباً لبلد أو لطبقة أو لعصر، تهوله ضخامة العمل، واتساع المكتبة العربية، أو يوحشه عنوان ديني، أو يمنعه – من الاختيار والدراسة - اسم قديم لا صلة له بالأدب والأدباء، يجب أن يكون حر التفكير، واسع الأفق بعيد النظر متطلعاً إلى الدراسة والتجربة، واسع الاطلاع على الكنوز القديمة، يفهم الأدب في أوسع معانيه ويعتقد أنه تعبير عن الحياة وعن الشعور والوجدان في أسلوب مُفهم مؤثر لا غير.
إنني لا أزدري كتب الأدب القديمة – من رسائل ومقامات وغيرها - ولا أقلل قيمتها اللغوية والفنية وأعتقد أنها مرحلة طبعية في حياة اللغات والآداب، ولكنني أعتقد أيضاً أنها ليست الأدب كله، وأنها لا تحسن تمثيل أدبنا العالي الذي هو من أجمل آداب العالم وأوسعها، وأنها جنت على القرائح والملكات الكتابية والمواهب والطاقات، وعلى صلاحية اللغة العربي ومنعت من التوسع والانطلاق في آفاق الفكر، والتعبير والتحليق في أجواء الحقيقة والخيال، وتخلفت بهذه الأمة العظيمة ذات اللغة العبقرية والأدب الغني فترة غير قصيرة، فخير لنا أن نعطيها حظها من العناية والدراسة ونضعها في مكانها الطبقي في تاريخ الأدب وطبقات الأدباء، وأن ننقّب في المكتبة العربية من جديد، ونعرض على ناشئتنا وعلى الجيل الجديد نماذج جديدة من الكتب القديمة للأدب حتى يتذوق جمال هذه اللغة وينشأ على الإبانة والتعبير البليغ، ويتعرّف على هذه المكتبة الواسعة ويستطيع أن يفيد منها.
(1) قدم هذا المقال إلى "مجلة اللغة العربية" التي يصدرها المجمع العلمي العربي بدمشق (مجمع اللغة العربية حالياً) حين اختير الكاتب عضواً مراسلاً فيه، وجعله مقدمة لكتابه "مختارات من أدب العرب".
(2) اقرأ كتابه الفريد: "حجة الله البالغة" واقرأ ترجمة مؤلفه في "نزهة الخواطر" الجزء السادس، طبع دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد (الهند) وكتاب صاحب هذه المقالات: الإمام الدهلوي (الجزء الرابع من "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" طبع دار القلم الكويتية).
محمد خليل- مشرف عام
- الموقع :
http://gihane.com/vb/images/laqeb/11.gif
وسام
أصاليٌّ:
(10/10)
مواضيع مماثلة
» الموقف من التراث
» النقد الأدبي الحديث إلى أين؟!
» الاختراق الأجنبي وسرعة الإيقاع يهددان الشعر العربي
» النقد الأدبي الحديث إلى أين؟!
» الاختراق الأجنبي وسرعة الإيقاع يهددان الشعر العربي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء فبراير 03, 2015 4:16 pm من طرف محمد الصالح الجزائري
» صنعاء :: شعر :: صبري الصبري
الجمعة سبتمبر 26, 2014 5:03 am من طرف صبري الصبري
» مآسينا :: شعر :: صبري الصبري
الثلاثاء مارس 04, 2014 1:12 am من طرف صبري الصبري
» الأزهر يتحدث
السبت أغسطس 10, 2013 12:29 pm من طرف صبري الصبري
» عشقتها :: شعر :: صبري الصبري
الأربعاء أبريل 03, 2013 2:48 pm من طرف صبري الصبري
» أفٍ لكم :: شعر :: صبري الصبري
الخميس مارس 28, 2013 3:53 am من طرف صبري الصبري
» الشيخ العريفي :: شعر :: صبري الصبري
الأحد يناير 13, 2013 2:13 pm من طرف صبري الصبري
» إشراقات الحج :: شعر :: صبري الصبري
الجمعة أكتوبر 19, 2012 1:26 pm من طرف صبري الصبري
» قهر المحبة :: شعر :: صبري الصبري
الإثنين أكتوبر 08, 2012 1:29 pm من طرف صبري الصبري
» إبليس ينشط :: شعر :: صبري الصبري
السبت أغسطس 25, 2012 4:34 pm من طرف صبري الصبري